الجمعة، 29 مارس 2013

حديث عن الهرمنوطيقيا


يصطلح بتعريف النشاط الهرمنوطيقي على أنه اما ان يكون تلاوة أو تفسيرا او ترجمة.. 

اذن ما هي الهرمنوطيقيا، مر هذا العلم بمراحل تطور عديدة، الهرمنوطيقيا هي كلمة يونانية اكتسبت المعنى من هرمس الذي كان يعتقد أنه رسول الآلهة، فهو الذي يفهم كلام الآلهة ويمرره للناس ...

أحبذ أن أختار معنى التأويل كتعبيرا عن الهرمنوطيقيا،

 فمنذ مارتن لوثر (10 نوفمبر 1483 - 18 فبراير 1546) وترجمته للنص الانجيلي الى الألمانية فقد قام بأول اختراق للنص المسيحي وجعله قابلا للمداولة، فالمعنى ليس مواضعا من الله (وهناك نقاش كبير في دائرة اللاهوت الاسلامية حول أن النص القرآني ومعانيه هو من مواضعة الله تنتفي فيه المساهمة البشرية) كان لوثر يريد أن يكسر السياج التي وضعته الكنيسة حول الانجيل لتحتكر تفسيره وفهمه وأنها هي الجهة الوحيدة التي يحق لها تفسيره لتحفظه من الضياع،

ليأتي بعد ذلك الفيلسوف الهولندي سبينوزا (1632-1677) صاحب رسالة في اللاهوت والسياسة ليكسر فيها السياج المقدس ويحفر في دائرة منشأ النص الالهي وكيفية اكتسابه القداسة ويناقش المقولات التي تزعم أنها حفظته دون تحريف،ليبدأ مسائلة تاريخية للنص ..
ليس لتفسير الكتاب المقدس معيارا آخر، غير ضياء العقل الذي يعم كل شئ .. يعتبر عمل سبينوزا هو أول من قال بتاريخية النص، أي اشتراك البشر في تكوين معناه أنه ليس من مصدر إلهي نقي 

.. 


شلايرماخر الهرمنوطيقيا علم كل فقه لغوي (1768- 1834)

يخلص شلايرماخر الألماني الى أن للغة وجود ذاتي وان المعنى مرهون في داخلها،فهي الوسيط بيننا وبين معنى ومقصد المؤلف،وهو يقول أيضا بأن النصوص المقدسة مكتوبة بلغة بشرية فلفهمها أيضا يجب علينا أن نستخدم أدوات بشرية كالنحو وفقه اللغة ليتسنى لنا بذلك الوصول الى المعنى .. النصوص الدينية هي كتابات كتبها بشر من أجل بشر،لذلك يجب أن تخضع الى نفس المبادئ التي يخضع لها تأويل أي نص آخر ..

غير أن المآخذ التي تؤخذ على شلايرماخر هو أنه سار خلف البعد السيكولوجي لنفسية المؤلف ومحاولة اعادة بناء البنية الفكرية للمؤلف من خلال لغته ونصه الذي كتبه وزعم أنه يمكن أن تقهم المؤلف أكثر من فهمه هو لنفسه! ولذلك يسمى هو ودلتاي بالرومنسيين ..


فيلهلم دلتاي (1911-1833)

كانت الحياة كتجربة خبرة معاشة هي المشترك الذي على أساسه بنى دلتاي فكرته بالوصول للمعنى، فنحن نفهم الاشياء من خلال ذاكرتنا وتذكرنا للشعور والخبرة بمرورنا بنفس  النوعية من الاحداث التي يحكيها لنا النص، فكما الدائرة التأويلية التي عند شلايرماخر هو أن الكل يكتسب معناه من الأجزاء والأجزاء هي أيضا جزء من كل يتم فهمه .. 

هرمنوطيقيا دلتاي هي ثورة على العلوم الطبيعية والتفكير العلمي الذي رأى أنه لا يمكن الأخذ بها فنحن نفسر الطبيعية ولكن الحياة علينا فهمها، وهذا الفهم يكون فهما تاريخيا لا يرتهن لتفسير جامد ماضوي فالحاضر لا يفهم الا من خلال تفاعل الذاكرة والحاضر والنظر الى أفق مستقبلي ،الاجزاء المكونة لما يشكل رأينا في مسار حياتنا هي جميعا محتواه معا في الحياة ذاتها.

 يعاب عليه أيضا أنه جرى خلف البعد السيكولوجي للانسان وجعله موضوعيا يمكن الاتكاء عليه ليكون أساسا للفهم ..


هوسرل (1859-1938


فيلسوف الظاهرية الفينومونولوجيا، وهو العلم الذي يدعو الى التوجه الى الظواهر ذاتها، يقول هسرل بامكانية الوصول للأنا التنرستندالية (الموضوعية) التي تتخلى عن مفاهيمها المسبقة وتستمع الى الظاهرة (الفينومن) لتكتسب معنى موضوعيا لا يختلط بمفاهيم القارئ المسبقة وبذلك يؤثر في نقاء وحقيقة المعنى للشئ، فعندما تتخلى الذات عن مفاهيمها المسبقة وتضعها بين أقواس تستطيع الوصول الى الموضوع الظاهري أمامها وتصل الى معناه القائم بذاته، ولكن هل يمكن فعلا تحقيق ذلك؟؟


هايدجر (1889-1976)



الهرمنوطيقيا هي التقاء بالوجود من خلال اللغة 
صاحب الوجود والزمان كان طالبا عند هوسرل، ولكنه انتقد فيه تفريقه بين الذات والموضوع، فعند هايدجر الذات والموضوع هي موضوع من موضوعات الوجود، واللغة هي بيت الوجود، فلا يوجد ذات نقية في الوجود لم تختلط بموضوعاته فأن نفهم ظاهرة فنحن نفهمها في سياق الوجود والزمان الذي صنع ذاتنا، يذهب هايدجر الى أبعد من ذلك ليقرر أن اللغة أساسا هي تأويلات للوجود! والوجود لا يستجيب لمقولاتنا الذاتية، فنحن أي البشر لسنا محور الوجود!


جادامر (1900-2002)

صاحب الحقيقة والمنهج، يقرر جادامر أن الحقيقة تستعصي على أصحاب المناهج وتحتجب عنهم، فليس هناك منهجا عليك اتباعه لتصل الى المعنى، ان المعاني تتكشف بذاتها، جادامر ركز على قضية مهمة في التأويل وهي دور الفروض والفهوم المسبقة في عملية التأويل، يقول أننا لا يمكن لنا أن نتخلى عن فهمنا المسبق ونقرأ الظاهرة بحياد، ان نقرأ بلا فهم مسبق هو أن نستخدم فهمنا المسبق، لا يمكن للفهم أن يكون ماضويا موضوعيا، نحن كائنات تاريخية لا تفهم العالم بمعزل عن مقولاتها الحاضرة ..
ويستحيل الوصول للمعنى الأصلي للنص (اي نص سواء كان دينيا أو ادبيا) فالمعنى الأصلي للنص هو كذكر النحل يموت فور اخصابه,ولجادامر انتققادات كبيرة على الرومانسيين (دلتاي وشلايرماخر) في سيرهم خلف البعد السيكولوجي،

هناك فرق بين الألسنية التي ترى في اللغة أنها علامات فبطريقة معينة تستطيع فك هذه الشفرات، هيدجر وجادامر يعترضون على هذه الفكرة لأنهم يعتبرون اللغة هي جزء من الوجود الانساني وهي بذاتها لا تحتوي على كل ما يريد قوله الانسان وقد تكون حجاب لما يريد أن يقوله، فالالتفاف الى ما وراء النص هو جزء أيضا من العملية الهرمنوطيقة، فالنص لايحمل معه وعلى أكتافه المعنى .. 

الأصوليون يقولون أن كلام الله أزلي لا نهائي مكتمل بكل الأشكال، سؤالي كيف يكون كلام الله مكتوبا بلغة البشر المتغيرة؟؟

كانت هذه محاولة بسيطة لاستعراض اهم الأفكار في دائرة التأويل الهرمنوطيقي ودورها في تعزيز النظرية القائلة بتاريخية الفهم وارتباطه بالزمان والوعي، فيستحيل القول بفهم أزلي لنص مهما تكن ماهيته، فنحن كبشر اما أن نعيش في الوجود واما نسير خلف مشاعرنا وخبرتنا المعاشة واما نحوز فهما مسبقا تجاه الظواهر، هذه الدوائر لا يمكن اختراقها بنص خارجي مهما تكن قوته، فنحن من نكتب النص ونحن من نترجمه ونؤوله ونساهم في نشره وتفسيره ..





الأحد، 3 مارس 2013

الانسان التقليدي في مواجهة الحداثة


يصطلح هايبرماس في تعريفه للحداثة على انها استبدال المفاهيم الاصولية لتفسير العالم بالمفاهيم الحديثة، ولكن ما الذي يدفع هايبرماس لأن يحدد الحداثة بمبادئ قبلية تحدد (مقام) وجودية للانسان الحداثي في مقاربته مع هذا العالم ..

منذ بدأ الانسان بوضع مقام جديد له بمقاربته مع العالم بدأت قصة الحداثة تكتب ورقاتها، فمنذ كتاب (في ثورات الاجرام السماوية) لعالم الفلك البولندي كوبرنيكوس ومقولته التي ضربت مقولة بطليموس اليوناني التي دعمتها الكنيسة بمركزية الارض، بدأ مقام الانسان من العالم يتزحزح من مكانه، بعد أن أثبتها العالم الالماني كبلر وأعمال جاليلو جاليلي الفيزيائي الايطالي لتنفجر العلوم منطلقة بعد قوانين الحركة لنيوتن، لينفسح المجال لمقام الانسان الجديد ( وفي ذلك اشارة لدور الاكتشافات العلمية في تحريك المقولات الفلسفية فقد قيل لولا نيوتن لما كان كانط) لا تهتم الورقة لتحصي الاكتشافات العلمية ..

ليتسنى للفلاسفة (وهم بدروهم يقوموا بالتنظير لمقام الانسان الوجودي) فمع ديكارت وسبينوزا الى كانط وهيجل ، تكسرت المقولات الدوغمائية الجامدة والخلفيات التي كانت تفهم العالم بواسطتها ..

وقد نقل هذا التحول الإنسانية (من الرؤية التأملية الى الفكر التقني، ومن الأشكال الجوهرية الى مفاهيم التقنية الرياضية،ومن الجواهر الروحية الى الدوافع الغريزية البدائية، ومن الاخروية الى التاريخانية)

تكسرت المقولات اللاهوتية التي كانت تفسر العالم الكوزمولوجي وتضرب على الانسان قيود للتحرر من الخطيئة الاولى وتحيط عنقه ببيعة دائمة لمقولات الكنيسة في الاقتصاد وفي المجتمع وايضا في ما بعد الموت ...

بدأ الانسان يعي ذاته بذاته، وازدهرت المعان الانسانية والفنون وأصبحت المعان تتفجر من خلال ابتسامة الموناليزا الخالدة، اصبح الانسان من (مقامه) الوجودي يتعرف على العالم الذي كان يحيطه بمقولات الاحلام والاماني والتفسيرات السحرية لظواهره، فلم تعد الغيوم تنزل أمطارها بسبب قوة مجهولة ترسلها لهذه الارض وتلك، بل بالقوى الفيزيائية التي اكتشفها الانسان من مختبره وتعرف عليها، ولم تعد الارواح الشريرة هي التفسير لاضطرابات الانسان النفسية ، ولم يعد العالم كتابا مغلقا يملك مفتاحه قوى غيبية تمتلك تفسيره ، ولم تعد نظرية الخلق الذكي مفتاحا لفهم تنوع الكائنات الممتدة فوق هذه الارض، وكان لفلاسفة العلم الذين يعنون بابستملوجيا المعرفة نظرياتهم في كيفية الوصول للحقيقة الطبيعية والسلامة من الخطأ .. فكان ديفد هيوم وكانط وبرترند راسل الخ....

والمجتمعات التقليدية التي لا تزال تتمسك بمقولات العالم القديم تعيش في حالة من القلق الدائم المستمر، فهي تستهلك المنتجات الحداثية وتريد أن تحافظ بها على محافظتها التقليدية (وهي طريقة هذه المجتمعات في الحياة تتمسك بالاماني) لتنتج بذلك مسوخ حضارية تستخدم الديمقراطية لتمرر مفاهيمها الاصولية، وتبني الجامعات لتستهلك العلم (فالحياة عندهم هي استهلاك ) ولا تدرس أو تتعلم كيف نشأ هذا العلم؟ وما هي المقولات التي سببت وجوده؟؟ وتخلط بين المقولات العلمية والمقولات الثقافية، فتضع المقولات الثقافية في نظامها الاقتصادي وتستجلب التراث ليشفي مريضها ولا تؤمن بالحقائق العلمية التجريبية .. ذلك هو مقام الانسان التقليدي من الوجود .. حتى حياته الوجدانية وأسئلته في استكناه الوجود أصبحت معدة سلفا، فالدوغمائية والثبوتية نزعت الى كل جزء من حياتهم ..

فمقام الانسان الوجودي وموقفه من العالم هو الفارق الأساسي بكونه انسان تتوق نفسه للحداثة والمفاهيم العلمية، أو يبقى في غياهب الظلام محتفظا بخيوط الأماني يورثها لأبناءه من جيل الى جيل،

 فتمسكه بمعاييره الايدلوجية للحكم على الوجود هو السبب في أن نهضته لم تتم حتى الآن