يصطلح بتعريف النشاط الهرمنوطيقي على أنه اما ان يكون تلاوة أو تفسيرا او ترجمة..
اذن ما هي الهرمنوطيقيا، مر هذا العلم بمراحل تطور عديدة، الهرمنوطيقيا هي كلمة يونانية اكتسبت المعنى من هرمس الذي كان يعتقد أنه رسول الآلهة، فهو الذي يفهم كلام الآلهة ويمرره للناس ...
أحبذ أن أختار معنى التأويل كتعبيرا عن الهرمنوطيقيا،
فمنذ مارتن لوثر (10 نوفمبر 1483 - 18 فبراير 1546) وترجمته للنص الانجيلي الى الألمانية فقد قام بأول اختراق للنص المسيحي وجعله قابلا للمداولة، فالمعنى ليس مواضعا من الله (وهناك نقاش كبير في دائرة اللاهوت الاسلامية حول أن النص القرآني ومعانيه هو من مواضعة الله تنتفي فيه المساهمة البشرية) كان لوثر يريد أن يكسر السياج التي وضعته الكنيسة حول الانجيل لتحتكر تفسيره وفهمه وأنها هي الجهة الوحيدة التي يحق لها تفسيره لتحفظه من الضياع،
ليأتي بعد ذلك الفيلسوف الهولندي سبينوزا (1632-1677) صاحب رسالة في اللاهوت والسياسة ليكسر فيها السياج المقدس ويحفر في دائرة منشأ النص الالهي وكيفية اكتسابه القداسة ويناقش المقولات التي تزعم أنها حفظته دون تحريف،ليبدأ مسائلة تاريخية للنص ..
ليس لتفسير الكتاب المقدس معيارا آخر، غير ضياء العقل الذي يعم كل شئ .. يعتبر عمل سبينوزا هو أول من قال بتاريخية النص، أي اشتراك البشر في تكوين معناه أنه ليس من مصدر إلهي نقي
..
شلايرماخر الهرمنوطيقيا علم كل فقه لغوي (1768- 1834)
يخلص شلايرماخر الألماني الى أن للغة وجود ذاتي وان المعنى مرهون في داخلها،فهي الوسيط بيننا وبين معنى ومقصد المؤلف،وهو يقول أيضا بأن النصوص المقدسة مكتوبة بلغة بشرية فلفهمها أيضا يجب علينا أن نستخدم أدوات بشرية كالنحو وفقه اللغة ليتسنى لنا بذلك الوصول الى المعنى .. النصوص الدينية هي كتابات كتبها بشر من أجل بشر،لذلك يجب أن تخضع الى نفس المبادئ التي يخضع لها تأويل أي نص آخر ..
غير أن المآخذ التي تؤخذ على شلايرماخر هو أنه سار خلف البعد السيكولوجي لنفسية المؤلف ومحاولة اعادة بناء البنية الفكرية للمؤلف من خلال لغته ونصه الذي كتبه وزعم أنه يمكن أن تقهم المؤلف أكثر من فهمه هو لنفسه! ولذلك يسمى هو ودلتاي بالرومنسيين ..
فيلهلم دلتاي (1911-1833)
كانت الحياة كتجربة خبرة معاشة هي المشترك الذي على أساسه بنى دلتاي فكرته بالوصول للمعنى، فنحن نفهم الاشياء من خلال ذاكرتنا وتذكرنا للشعور والخبرة بمرورنا بنفس النوعية من الاحداث التي يحكيها لنا النص، فكما الدائرة التأويلية التي عند شلايرماخر هو أن الكل يكتسب معناه من الأجزاء والأجزاء هي أيضا جزء من كل يتم فهمه ..
هرمنوطيقيا دلتاي هي ثورة على العلوم الطبيعية والتفكير العلمي الذي رأى أنه لا يمكن الأخذ بها فنحن نفسر الطبيعية ولكن الحياة علينا فهمها، وهذا الفهم يكون فهما تاريخيا لا يرتهن لتفسير جامد ماضوي فالحاضر لا يفهم الا من خلال تفاعل الذاكرة والحاضر والنظر الى أفق مستقبلي ،الاجزاء المكونة لما
يشكل رأينا في مسار حياتنا هي جميعا محتواه معا في الحياة ذاتها.
يعاب عليه أيضا أنه جرى خلف البعد السيكولوجي للانسان وجعله موضوعيا يمكن الاتكاء عليه ليكون أساسا للفهم ..
هوسرل (1859-1938)
فيلسوف الظاهرية الفينومونولوجيا، وهو العلم الذي يدعو الى التوجه الى الظواهر ذاتها، يقول هسرل بامكانية الوصول للأنا التنرستندالية (الموضوعية) التي تتخلى عن مفاهيمها المسبقة وتستمع الى الظاهرة (الفينومن) لتكتسب معنى موضوعيا لا يختلط بمفاهيم القارئ المسبقة وبذلك يؤثر في نقاء وحقيقة المعنى للشئ، فعندما تتخلى الذات عن مفاهيمها المسبقة وتضعها بين أقواس تستطيع الوصول الى الموضوع الظاهري أمامها وتصل الى معناه القائم بذاته، ولكن هل يمكن فعلا تحقيق ذلك؟؟
هايدجر (1889-1976)
الهرمنوطيقيا
هي التقاء بالوجود من خلال اللغة
صاحب الوجود والزمان كان طالبا عند هوسرل، ولكنه انتقد فيه تفريقه بين الذات والموضوع، فعند هايدجر الذات والموضوع هي موضوع من موضوعات الوجود، واللغة هي بيت الوجود، فلا يوجد ذات نقية في الوجود لم تختلط بموضوعاته فأن نفهم ظاهرة فنحن نفهمها في سياق الوجود والزمان الذي صنع ذاتنا، يذهب هايدجر الى أبعد من ذلك ليقرر أن اللغة أساسا هي تأويلات للوجود! والوجود لا يستجيب لمقولاتنا الذاتية، فنحن أي البشر لسنا محور الوجود!
جادامر (1900-2002)
صاحب الحقيقة والمنهج، يقرر جادامر أن الحقيقة تستعصي على أصحاب المناهج وتحتجب عنهم، فليس هناك منهجا عليك اتباعه لتصل الى المعنى، ان المعاني تتكشف بذاتها، جادامر ركز على قضية مهمة في التأويل وهي دور الفروض والفهوم المسبقة في عملية التأويل، يقول أننا لا يمكن لنا أن نتخلى عن فهمنا المسبق ونقرأ الظاهرة بحياد، ان نقرأ بلا فهم مسبق هو أن نستخدم فهمنا المسبق، لا يمكن للفهم أن يكون ماضويا موضوعيا، نحن كائنات تاريخية لا تفهم العالم بمعزل عن مقولاتها الحاضرة ..
ويستحيل الوصول للمعنى الأصلي للنص (اي نص سواء كان دينيا أو ادبيا) فالمعنى الأصلي للنص هو كذكر النحل يموت فور اخصابه,ولجادامر انتققادات كبيرة على الرومانسيين (دلتاي وشلايرماخر) في سيرهم خلف البعد السيكولوجي،
هناك فرق بين الألسنية التي ترى في اللغة أنها علامات فبطريقة معينة تستطيع فك هذه الشفرات، هيدجر وجادامر يعترضون على هذه الفكرة لأنهم يعتبرون اللغة هي جزء من الوجود الانساني وهي بذاتها لا تحتوي على كل ما يريد قوله الانسان وقد تكون حجاب لما يريد أن يقوله، فالالتفاف الى ما وراء النص هو جزء أيضا من العملية الهرمنوطيقة، فالنص لايحمل معه وعلى أكتافه المعنى ..
الأصوليون يقولون أن كلام الله أزلي لا نهائي مكتمل بكل الأشكال، سؤالي كيف يكون كلام الله مكتوبا بلغة البشر المتغيرة؟؟
كانت هذه محاولة بسيطة لاستعراض اهم الأفكار في دائرة التأويل الهرمنوطيقي ودورها في تعزيز النظرية القائلة بتاريخية الفهم وارتباطه بالزمان والوعي، فيستحيل القول بفهم أزلي لنص مهما تكن ماهيته، فنحن كبشر اما أن نعيش في الوجود واما نسير خلف مشاعرنا وخبرتنا المعاشة واما نحوز فهما مسبقا تجاه الظواهر، هذه الدوائر لا يمكن اختراقها بنص خارجي مهما تكن قوته، فنحن من نكتب النص ونحن من نترجمه ونؤوله ونساهم في نشره وتفسيره ..